ليس خافياً على أحد بأن الأحداث الكارثية التي مرت على سوريا خلال سنواتٍ عدة مضت، قد دمرت الحجر والبشر، وتشرد نصف الشعب السوري، بين نازح داخل الأراضي السوري، ولاجئ خارج الحدود متوزعين على معظم أصقاع الأرض.
لازال المشهد السوري مفتوحاً على كل الاحتمالات، فعلى الأرض السورية توجد عدة جيوش أجنبية، ولا يوجد صاحب قرار سوري فيما يخص الشأن السوري.
الارتهان للخارج
كل اللقاءات التي جرت وتجري لبحث الملف السوري، يغيب عنها السوريون، وتمت الهيمنة على رأي السوريين فيما يخص قضيتهم وشأنهم ومعاناتهم، بل أن السوريين أصبحوا يتلقفون اخبار بلدهم من وسائل الاعلام الأجنبية، لكي يعرفوا ما الذي قرره أصحاب القرار الدوليون والاقليميون لمصيرهم.
انقسم السوريون فيما بينهم خلال سنوات الكارثة، على حسب مكان تواجدهم أو منفعتهم الخاصة، فمنهم من يؤيد تركيا ويرى فيها الشقيق المُنقذ، ومنهم من يؤيد ايران كداعم لمحور الممانعة حسب رؤيتهم، ومنهم ذهب ولاؤه لدول الخليج العربي، وبعضهم يؤيد التواجد الروسي، والبعض الآخر يراهن على الدور الأمريكي، ونسي أو تناسى الجميع بأن الدول ليست جمعيات خيرية تُقدم المساعدات بشكل مجاني، فلكل دولة مصالحها الخاصة التي تعتبرها في أولويات أي حل سياسي في سوريا.
أما مَن في الداخل، فأصبح الجميع في حيرة من أمرهم، فلم يستطيعوا السفر او الهجرة، وأصبحوا يعانون من وضع اقتصادي متدهور، وقد يكون حصولهم على رغيف الخبز من اهم مطالبهم، فتحولوا الى عاجزين سياسيا عن ابداء رأيهم بين الخوف من سلطة تلاحقهم حتى إذا تنفسوا على مرأى ومسمع العالم، وبين جوعٍ يدق أبوابهم إذا لم تُدَق أعناقهم.
التخوين والتكفير
بين العمالة والخيانة أصبح واقع السوريين مأساوياً، فمن يخفي رأيه وموقفه من النظام يُعتبر موالياً له، وتنطبق عليه تهمة العَمالة له، ومن يقف ضد النظام فهو خائن وعميل أيضاً لكل دول العالم.
ما الذي يمكن فِعله، أو بمعنى آخر ما هي الامكانيات التي نملكها؟
يقول أحدهم لقد هُزِمنا، وآخر يُحمّل "الثورة" المسؤولية ويسميها "فورة"، وآخر يقول لقد تدمّر البلد وتشرّد نصف شعبه، وآخر يقول لقد نجحت "المؤامرة" بتدمير البلد ويرد عليه آخر بأن المؤامرة قد فشلت ودليله على ذلك الانتصارات ضد الارهابيين.. والكثير من الكلمات المحبطة المتداولة..
قد تكون تلك العبارات صحيحة من وجهة نظر قائليها، ولست هنا بصدد تبني أيّ منها، ولكن، بعد كل ذلك ألا تستحق سوريا (الوطن) البحث عن حلول، أليس الأجدى أن نترك الندب والنحيب ونقول فلنستفيد من الذي حدث لإعادة بناء وطن يتسع للجميع، تكون المواطَنة أساس فيه. فلننظر الى تجارب الدول التي تدمرت سابقاً، ثم أحياها شعبها وأصبحت في مقدمة دول العالم.
في سوريا، لم ينتصر سوري على سوري آخر، ولم يُهزَم سوريٌ أمام سوريٍ. لكن السوريين كشعبٍ، أو أرضٍ، هم الخاسرون من كل ما جرى ويجري.
فنحن أمام خيارين لا ثالث لهما، إما سورية وطنٌ لجميع السوريين. أو نتركها عرضةً بيد الأغراب الذين سيرحلون عاجلاً أم آجلاً. فلنبحث عن حلول. وهذا الكلام برسم كل السوريين
ماذا عن مدونة السلوك؟!!
مما سبق من الكلام، كان السوريون يرتهنون في رأيهم وقرارتهم للخارج غير السوري، والحل الوحيد بشكل حقيقي هو أن يتوحّد السوريون على ماذا يريدون، لكي يكون بإمكانهم فرض رأيهم ومصيرهم على اصحاب القرار الدوليين.
فعندما اجتمع العديد من الشخصيات السورية، ومن كافة شرائح المجتمع السوري، وبكل اطيافه، وبعيداً عن أي خلفية سياسية لأي شخصية حضرت، كان الهاجس الأكبر للمجتمعين في كيفية البحث عن الخروج من أزمة الخندقة السياسية التي وصل اليها السوريون، فكان رأي المجتمعين هو البدء بالمجتمع للنهوض من الكارثة التي حصلت، فالاستمرار في الاتهامات لن تُوصل السوريين الى نهاية النفق المُظلم، فكانت اللقاءات من برلين العاصمة الألمانية، للاستفادة من تجربة الألمان الذين نهضوا بعد الحرب العالمية الثانية، واصبحت اليوم في مصاف الدول الكبرى في العالم، فلماذا لا يتم الاستفادة من تلك التجربة؟!!
يقول نيلسون مانديلا، رئيس جنوب إفريقيا السابق في مذكّراته: "بعد أن أصبحت رئيساً، طلبت من بعض أفراد حمايتي التّجوال معي داخل المدينة مترجّلين. دخلنا أحد المطاعم، فجلسنا في أماكننا وطلب كلّ منّا ما يريده من طعام. في الوقت الذّي كنّا ننتظر العامل أن يحضر لنا الطّعام، وقع بصري على شخص جالس قبالتي ينتظر بدوره ما طلبه.
قلت لأحد أفراد حمايتي: "اذهب إلى ذلك الرّجل واطلب منه أن يأتي ويشاركنا الأكل على طاولتنا." جاء الرّجل فأجلسته بجانبي وبدأ كلّ منّا في تناول غذاءه، كان العرق يتصبّب من جبينه ويده ترتجف لا تقوى على إيصال الطّعام إلى فمه...
بعد أن فرغ الجميع من الأكل وذهب الرجل في حال سبيله، قال لي حارسي الشخصي: "الرّجل الذي كان بيننا تظهر عليه علامات المرض، فقد كانت يداه ترتجفان ولم يستطع الأكل إلاّ النّزر القليل"
فأجبته: "لا... أبدا، ليس كما ظننت. هذا الرّجل كان حارساً للسّجن الانفرادي الذّي كنت أقبع فيه. وفي أغلب الأحيان وبعد التّعذيب الذّي يمارس عليّ، كنت أصرخ وأطلب قليلا من الماء. فيأتي هذا الرجل ويقوم بالتبول على رأسي في كل مرة، لذلك كان يرتعد خوفا من أن أعامله بنفس ما كان يفعل معي فأقوم بتعذيبه أو بسجنه. لكن ليست هذه أخلاقي، فعقلية الثأر لا تبني دولة في حين عقلية التّسامح تبني أمم."
فهل نستطيع اليوم التفكير والتصرف كنلسون مانديلا، وننقذ ما تبقى من البلد، أم نبقى في حالة الندب ونكرر المآسي التي حصلت مع الفلسطينيين أو العراقيين؟!!
لم يفت الأوان بعد..