من المفارقات التي فرضتها الحالة السورية هي إلتفات عدد كبير من السوريين إلى العمل المدني. فمع الجيوش الكثيرة العاملة في القضية السورية، نستطيع التحدث بالمقابل عن جيش من الناشطات والناشطين، المدربات والمدربين، الباحثات والباحثين، الذين خاضوا ولا زالوا يخضون غمار العمل المدني في الكثير من المنظمات والجمعيات ومجموعات العمل والهيئات. هذه الأجسام المختلفة أمنت، على تنوع أهدافها وبرامجها ونطاق عملها، إطاراً لرفع الصوت ونقاش القضايا المختلفة التي تتعلق بتجربة هؤلاء السوريين المشتغلين فيما صار يعرف اختصاراً وفي أوساط كثيرة "بالمجتمع المدني".
من هنا يجب الاعتراف بأن أولى ارتدادات الزلزال الذي هزّ المجتمع السوري في آذار 2011، كان النشاط المدني في الداخل السوري، والذي تبدّى بفكرة المجالس المحلية التي أسس لها بورقة عمل مميزة المرحوم عمر عزيز، الذي قضى في شباط/فبراير 2013 في سجن عدرا في دمشق، متأثرا بالتنكيل الذي تعرض له بعد اعتقاله في تشرين الأول/أكتوبر 2012. وقد عمّت هذه المجالس المحلية المدن والقرى السورية كافة. إلا أن الأطراف المتحاربة من أتباع النظام أو القوى الأخرى، التي شعرت بأن الأيام القادمة في سورية ستكون ملكاً لها، انتبهت إلى خطورة هذه التشكيلات المدنية على عملها الذي بدأ بحشد المقاتلين وتلقيم البنادق ورسم الخرائط بقوة السلاح. فكان استهداف الناشطين المدنيين في كل المناطق السورية على رأس أولويات تنظيف ساحة الحرب قبل انطلاق شرارة القتال الفعلي، والأمثلة كثيرة من غياث مطر إلى رائد الفارس إلى غيرهما الكثير.
على الرغم من هذا الموقف، إلا أن المجتمع المدني السوري فرض نفسه كعامل لا يمكن تجاوزه. فالملاحظ بأن منظمات المجتمع المدني قد اتسعت دائرة نشاطها في الداخل السوري برعاية النظام عبر هيئات يرعاها في المناطق التي يسيطر عليها، وهيئات أخرى في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة تعمل في ظل حكم القوى المسلحة المسيطرة على تلك المناطق. وأهم النشاطات التي أصبحت تمارس في كافة أماكن تواجد "المجتمعات" السورية هي الإغاثة والدعم النفسي للمدنيين وخاصة الأطفال وتمكين النساء وخلق مشاريع اقتصادية وثقافية ودعم النشاط الصحي من خلال كادر مؤهل وتجهيزات وغيرها.
ولعلّ أكثر أنواع نشاطات المجتمع المدني حساسية لدى السوريين والداعمين من منظمات وحكومات على حد سواء، هو العمل مع المنظمات ذات النشاط الفكري/المجتمعي. ولا نقصد هنا بالطبع المنظمات ذات التوجه الديني، إذ أن هذه سرعان ما تجد حاضنتها المادية والمعنوية بين جمهور التدينين، بل نقصد المنظمات التي تطرح مشكلات السوريين، نظاماً ومجتمعاً، والتي أوصلت سورية إلى الخضوع للحكم الشمولي لفترة امتدت على عشرات السنوات، وانتهت بها إلى مشروع ثورة سرعان ما انقلبت إلى صراع، هو بكل مقاييس الفكر السياسي والقوانين الدولية والوضعية حرب أهلية. ومع ذلك، يتميز نسق ليس بالقليل من السوريين بحرصهم على إبقاء جذوة الرغبة بالتغيير السلمي والمدني مشتعلة رغم كل التحديات والمعوقات. وهؤلاء السوريون يرون بأن المدخل الفعلي والمُجدي لإعادة بناء الهوية السورية، هو وضع محددات سوريّة وطنيّة لدولة مدنية تعددية تحفظ لمواطنيها حقوقهم، وتجعلهم يؤدون واجباتهم في إطار رابطة المواطنة.
وعلى ذلك فقد اتجهت بعض منظمات المجتمع المدني إلى العمل على البحث في جذور الصراع السوري-السوري. هذا الصراع الذي استغلته أطراف النزاع في الاستحواذ على مقدرات السوريين، وتمرير مشاريع سياسية مرتبطة بأجندات سياسية جعلت سورية مسرحا لفرضها. لكن هذه المنظمات قد واجهت مجموعة معوقات، أهمها الانحياز المجتمعي بكافة أشكاله، الديني-الطائفي والمذهبي والقومي-المناطقي، إضافة إلى بروز التناقض بين ثنائية الريف والمدينة. ومن المعوقات على صعيد البحث الجاد في مشكلات المجتمع السوري، ظهور فئة (ونكاد نسميها طبقة) من متعيشي ومرتزقة (العمل المدني) عبر التواجد المكثف في منصات العمل المدني، بغض النظر عن المحتوى الفكري أو هوية الممول أو المانح كما يسمى. هدف هذه الفئة هو الوصول إلى الحصول على التمويل المادي والعمل على مشاريع بعضها مفيد وبعضها أقل من الطموح، مع قبول العمل في بعض الأحيان لدى منظمات عليها شبهة المحسوبية والفساد.
لكل طرف من طرفي الصراع مجتمعه المدني السوري أو (الصدمة):
لم يترك السياسيون هذا الجانب من الشأن العام يتحرك بعيداً عن استغلالهم له لتمرير مشاريعهم ولتعزيز محاولاتهم لتشكيل قاعدة شعبية قد يحتاجونها في لحظة ما من الزمن السوري القادم، حيث ستنتصب صناديق الاقتراع. على ذلك فإن التحكّم، أو بالحد الأدنى التدخل، في عمل هذه المنظمات صار أمراً معتاداً لدى السوريين. لذلك فإن تعزيز وجهة النظر السياسية، وهي على الأغلب متطرفة وتمارس الإقصاء السياسي لكافة الأطراف الأخرى على الساحة السورية، أصبح الدافع الأساسي للعمل مع هكذا منظمات. وبالطبع لن ننسى أو نتناسى أن التعميم لغة الحمقى، ولسنا في وارد إطلاق الأحكام أو الاتهامات، إذ أن هناك من المنظمات من أثبت جدارة ومصداقية وتفانٍ في سبيل تخفيف معاناة السوريين في أي مكان قُيّض لهم الوصول إليه. لكن وبالمقابل، ليس مستغرباً في أي اجتماع أو ورشة عمل أن تسمع من عضو منظمة للمجتمع المدني خطبة سياسية نارية تهاجم الطرف الآخر وتخوّنه.
لذلك فإن الانقسام الحاد الذي يعيشه السوريون في كافة مناحي حياتهم لم ينجُ منه العمل المجتمعي. فبعد أن صار لكل جهة سياسية أحزاب أو هيئات أو غيرها، منظماتها وجمعياتها الناشطة على الأرض، نشأ لدى السوريين ما يعرف بالمجتمع أو "المجتمَعات مدنيَة" والتي تتبع أو تكون قريبة تارة من معارضة، وتارة أخرى من النظام. هذا الأمر دفع بمبعوث الأمم المتحدة المشرف على الملف السوري، إلى دعوة ثلاثة وفود سوريّة متساوية العدد (50 عضو لكل وفد): وفداً للنظام ووفداً للمعارضة والوفد الثالث عن المجتمع المدني السوري. لكن اللافت هو أن وفد المجتمع السوري المدني مقسوم بالتساوي إلى 25عضو من مؤيدي النظام، ومثلهم، أي 25 عضواً، من المحسوبين على المعارضة. كما أن طرفا المجتمع المدني السوري معبآن بالمواقف السياسية المنحازة كلٌ حسب الجهة التي تدعمه، كما أوضحت ذلك بعض التسريبات الواردة من اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف، إذ يظهر بعض ممثلي المجتمع المدني أكثر تشنجاً وتزمتاً من وفدي النظام والمعارضة. هذا ما أدى إلى ظهور مشاكل إضافية بين السوريين لا بد من البحث عن حلول لها.
أين المشكلة وأين الحل؟
تجلت المشكلة أو الصدمة في لقاء الإخوة أنصار العمل المدني، أعداء المواقف السياسية، في أن كلا الطرفين يعمل في معزل عن الآخر، وفي أن مشاريعهما منفصلة، والسبب في ذلك حسب رأينا، هو انتصار السياسة على العمل المجتمعي. فبدلا من تأثير منظمات المجتمع المدني على السياسيين، ودفعهم لتبني الفكر الجامع الذي يقوم عليه العمل المجتمعي، فرض السياسي سطوته على نشطاء المجتمع المدني وأجبره على اتخاذ مواقف سياسية حادة أحياناً.
هذا يظهر بأن المجتمع المدني السوري فقد جزئياً سبب وجوده بسبب تأثير السياسات المختلفة عليه، وخصوصاً تأثيرها على منظمات المجتمع المدني العاملة في المجال القانوني، السياسي والاجتماعي. إذ أن أهمية هذه المنظمات تأتي من أنها تحاول العمل على النموذج المثالي للدولة بجانبها القانوني والسياسي، ونقصد هنا الدولة التي ستنشأ بعد انتهاء القتال وانطلاق الحل السياسي والبدء بإزالة آثار الحرب. هذه المنظمات لن يتسنى لها برأينا العمل الفعال، ما لم تحقق الاختراق الصعب في المجتمع السوري. هذا الاختراق يعادل بالجدوى والأهمية جلوس الأطراف المتنازعة على طاولة الحوار، ونقصد به اجتماع أصحاب القانون والعلم الدستوري والخبراء من كلا الطرفين، والعمل سويةً بعقل بارد وشعور وطني جامع وواضح لوضع مبادئ دستورية، أو اقتراح إعلان دستوري، أو مشروع مفاهيم فوق دستورية.
أيا يكن ما تريده هذه المنظمات، لكنها لن تصل إلى مكان إذا لم تكن متعالية على كل أسباب الخلاف بين السوريين. ومن أهم عوامل نجاحها هو جمع الداخل السوري مع الداخل السوري المقابل، وجمع الداخل السوري مع الخارج السوري. وطبعا هذه المنظمات إن كانت بالفعل جامعة للكوادر العلمية القانونية السورية، لن ترضى لنفسها وفق ما نعرفه عن ميّزات الشخصية السوريّة المتزنة (دون شوفينية أو عنصرية)، إلا أن تخرج نتيجة عملها تنافس أشد الأفكار المطروحة في العالم تحرراً و مدنيةً وانحيازاً لحقوق الإنسان. إن القفز فوق الحواجز النفسية والانتماءات الصغيرة الجانبية التي تحكم سلوك السوريين عموماً، ووضوح الرؤية بما يتعلق بالهدف المنشود، ووضع الآليات المناسبة للوصول إلى هذا الهدف، كل ذلك يحتاج لأشخاص ومنظمات عابرين للقيود، هذه القيود المتمثلة بالطوائف والطبقات الاجتماعية والقبائل والقوميات والأيديولوجيا. هذه ليست دعوة لعمل خيري أو ل "تبويس شوارب" على طريقة المضافات، إنها دعوة لبناء بلد دمّرته الحرب والخلافات. إذ أنه يجب بناء نظام سياسي واجتماعي يعيد الأمل لنفوس السوريين المحطمة. على ذلك، فمهمة المجتمع المدني الحامل للقيم الاجتماعية المختلفة أن يقدم للسياسيين وللعالم وللسوريين النموذج الذي يضمن لهم بداية العيش المشترك الآمن، ثم الانتقال إلى الدولة القوية بدستورها ومؤسساتها ومواطنيها.